أولاً: بيعة علي لعثمان رضي الله عنه:
لم يكد يفرغ الناس من دفن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حتى أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وقيل إنهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس، ليقضوا في أعظم قضية عرضت في حياة المسلمين – بعد وفاة عمر -، وقد تكلم القوم وبسطوا آراءهم، واهتدوا بتوفيق الله إلى كلمة سواء رضيها الخاصة والكافة من المسلمين, وقد أشرف على تنفيذ عملية الشورى واختيار الخليفة عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه- وحقق رضي الله عنه أول مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يتحمل أعباء الخلافة، ويسوس أمور المسلمين، فهو قد اصطنع من الأناة والصبر والحزم وحسن التدريب ما كفل له النجاح في أداء مهمته العظمى, وقاد ركب الشورى بمهارة وتجرّد، مما يستحق أعظم التقدير, قال الذهبي: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزل نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان، ولو كان محابيًا فيها لأخذها لنفسه، أو لولاّها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص, وقد تم الاتفاق على بيعة عثمان بعد صلاة صبح يوم البيعة اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23هـ/6نوفمبر644م، وكان صهيب الرومي الإمام؛ إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف، وقد اعتمّ بالعمامة التي عمّمه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضرًا من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد، منهم: معاوية أمير الشام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر وصاحبوه إلى المدينة, وجاء في رواية البخاري: فلما صلى الناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضرًا من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهّد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد، يا علي، إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلاً فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون, وجاء في رواية صاحب التمهيد والبيان أن علي بن أبي طالب أول من بايع بعد عبد الرحمن بن عوف.
ثانيًا: أباطيل رافضية دُسّت في قصة الشورى:
هناك أباطيل رافضية دُسّت في التاريخ الإسلامي في قصة الشورى وتولية عثمان الخلافة، وقد تلقّفها المستشرقون وقاموا بتوسيع نشرها، وتأثر بها الكثير من المؤرخين والمفكرين المحدثين، ولم يمحّصوا الروايات، ويحققوا في سندها ومتنها، فانتشرت بين المسلمين. لقد اهتم مؤرخو الشيعة الرافضة بقصة الشورى وتولية عثمان بن عفان الخلافة، ودسّوا فيها الأباطيل والأكاذيب، وألّف جماعة منهم كتبًا خاصة. فقد ألف أبو مخنف كتاب (الشورى)، وكذلك ابن عقدة، وابن بابويه, ونقل ابن سعد تسع روايات من طريق الواقدي في خبر الشورى وبيعة عثمان وتاريخ توليه للخلافة, ورواية من طريق عبيد الله بن موسى تضمنت مقتل عمر وحصره للشورى في الستة، ووصيّته لكل من علي وعثمان إذا تولى أحدهما أمر الخلافة، ووصيّته لصهيب في هذا الأمر, وقد نقل البلاذري خبر الشورى وبيعة عثمان عن أبي مخنف, وعن هشام الكلبي منها ما نقله عن أبي مخنف ومنها ما تفرّد به, وعن الواقدي, وعن عبيد الله بن موسى, واعتمد الطبري في هذه القصة على عدة روايات منها رواية أبي مخنف, ونقل ابن أبي الحديد بعض أحداث قصة الشورى من طريق أحمد بن عبد العزيز الجوهري, وأشار إلى نقله عن كتاب (الشورى) للواقدي, وقد تضمنت الروايات الشيعية الرافضة عدة أمور مدسوسة ليس لها دليل من الصحة، وهي:
1- اتهام الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين:اتهمت الروايات الشيعية الرافضية الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين، وعدم رضا علي بأن يقوم عبد الرحمن باختيار الخليفة، فقد ورد عند أبي مخنف وهشام الكلبي عن أبيه وأحمد الجوهري أن عمر جعل ترجيح الكفتين إذا تساوتا بعبد الرحمن بن عوف، وأن عليًا أحس بأن الخلافة قد ذهبت منه؛ لأن عبد الرحمن سيقدم عثمان للمصاهرة التي بينهما, وقد نفى ابن تيمية أي ارتباط في النسب القريب بين عثمان وعبد الرحمن فقال: إن عبد الرحمن ليس أخًا لعثمان ولا ابن عمه، ولا من قبيلته أصلاً، بل هذا من بني زهرة، وهذا من بني أمية، وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلاً منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خالي، فليرني امرؤ خاله، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخي بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري, وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك, وقد بنت الروايات الشيعية الرافضية محاباة عبد الرحمن لعثمان للمصاهرة التي كانت بينهما، متناسية أن قوة النسب أقوى من المصاهرة من جهة، ومن جهة أخرى تناسوا طبيعة العلاقة بين المؤمنين في الجيل الأول، وأنها لا تقوم على نسب ولا مصاهرة، وأما كيفية المصاهرة، التي كانت بين عبد الرحمن وعثمان فهي أن عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت الوليد.
2- حزب أموي وحزب هاشمي: أشارت رواية أبي مخنف إلى وقوع مشادة بين بني هاشم وبني أمية أثناء المبايعة وهذا غير صحيح، ولم يرد ذلك برواية صحيحة ولا ضعيفة, وقد انساق بعض المؤرخين خلف الروايات الشيعية الرافضية لحاجة في نفوسهم، مع بطلانها سندًا ومتنًا من جهة وثبوت روايات صحيحة تناقض ما ذهبوا إليه من جهة أخرى، وبنوا تحليلاتهم الخاطئة على تلك الروايات، فصوروا تشاور أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تحديد الخليفة الجديد بصورة الخلاف العشائري، وأن الناس قد انقسموا إلى حزبين؛ حزب أموي وحزب هاشمي، وهو تصوّر موهوم واستنتاج مردود لا دليل عليه، إذ ليس نابعًا من ذلك الجو الذي كان يعيشه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يقف المهاجري مع الأنصاري ضد أبيه وأخيه وابن عمه وبني عشيرته، وليس نابعًا من تصور هؤلاء الصحب وهم يضحون بكل شيء من حطام الدنيا في سبيل أن يسلم لهم دينهم، ولا من المعرفة الصحيحة لهؤلاء النخبة من المبشرين بالجنة، فالأحداث الكثيرة التي رُويت عن هؤلاء تثبت أنهم كانوا أكبر بكثير من أن ينطلقوا من هذه الزاوية الضيقة في معالجة أمورهم، فليست القضية تمثيلاً عائليًا أو عشائريًا، فهم أهل شورى لمكانتهم في الإسلام.
3- أكاذيب نُسبت زورًا وبهتانًا لعلي رضي الله عنه: قال ابن كثير: وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليًا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته؛ لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكّأ حتى قال عبد الرحمن: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). [الفتح:10]، إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح، فهي مردودة على قائليها وناقليها والله أعلم، والمظنون من الصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القُصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها وسقيمها.
ثالثًا: المفاضلة بين عثمان وعلى رضي الله عنهما:
الذي عليه أهل السنة أن من قدم عليًا على أبي بكر وعمر فإنه ضالّ مبتدع، ومن قدم عليًا على عثمان فإنه مخطئ ولا يضللونه، ولا يبدّعونه, وإن كان بعض أهل العلم قد تكلم بشدة على من قدم علياً على عثمان بأنه قال: من قدم عليًا على عثمان فقد زعم أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خانوا الأمانة حين اختاروا عثمان على عليّ رضي الله عنه, وقد قال ابن تيمية: استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلي – ليست من الأصول التي يُضلّل المخالف فيها عن جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يُضلّل المخالف فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله, وذكر أقوال أهل العلم في مسألة تفضيل عليّ على عثمان: فقال: فيها روايتان: إحداهما، لا يسوغ ذلك، فمن فضّل عليًا على عثمان فقد خرج من السنة إلى البدعة، لمخالفته لإجماع الصحابة، ولهذا قيل: من قدم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يُروى ذلك عن غير واحد، منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدار قطني، الثانية: لا يُبدّع من قدّم عليًا، لتقارب حال عثمان وعلي.
رابعًا: علي -رضي الله عنه- يقيم الحدود ويُستشار في شؤون دولة عثمان -رضي الله عنه-:
1- إقامة علي للحدود في عهد عثمان رضي الله عنهما: عن حصين بن المنذر، قال: شهدت عثمان بن عفان، وأتي بالوليد فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه لم يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي، قم فاجلده فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولَّ حارها من تولى قارها, فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلي يعد، حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إليّ. ويُؤخذ من هذا الحديث أن عليًا -رضي الله عنه- كان قريبًا من عثمان ومعينًا له على طاعة الله، وكان علي -رضي الله عنه- يقول في معرض دفاعه عن عثمان ردًا على من يعيب على عثمان بفعل المنسوب للوليد: إنكم ما تعيرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردءه, ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بفعله وعزله عن عمله؟ وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا؟
2- استشارة عثمان لعلي وكبار الصحابة في فتح إفريقية: جاء في (رياض النفوس) أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان جاءه من واليه على مصر «عبد الله بن سعد» أن المسلمين يغيرون على أطراف إفريقية فيصيبون من عدوهم، وأنهم قريبون من حوز المسلمين، فأعرب عثمان بن عفان رضي الله عنه- على إثر ذلك- للمسور بن مخرمة عن رغبته في بعث الجيوش لغزو إفريقية، جاء في هذا الصدد ما نصه: فما رأيك يا ابن مخرمة؟ قلت: اغزهم، قال: أجمع اليوم الأكابر من أصحاب رسول الله، وأستشيرهم، فما أجمعوا عليه فعلته، أو ما أجمع عليه أكثرهم فعلته..رأيت عليًا، وطلحة والزبير والعباس، وذكر رجالاً، فخلا بكل واحد منهم في المسجد، ثم دعا أبا الأعور «سعيد بن زيد» فقال له عثمان: لم كرهت- يا أبا الأعور – من بعثة الجيوش إلى إفريقية؟ فقال له: سمعت «عمر» يقول: لا أغزيها أحدًا من المسلمين ما حملت عيناي الماء فلا أرى لك خلاف عمر، فقال له عثمان: والله ما نخافهم، وإنهم لراضون أن يقروا في مواضعهم، فلا يغزون، فلم يختلف عليه أحد ممن شاوره غيره، ثم خطب الناس، وندبهم إلى الغزو، إلى إفريقية، فخرج بعض الصحابة منهم عبد الله بن الزبير، وأبو ذر الغفاري.
3- رأي علي في جمع عثمان الناس على قراءة واحدة: جمع عثمان -رضي الله عنه- المهاجرين والأنصار وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيان الصحابة، وفي طليعتهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعرض عثمان -رضي الله عنه- هذه المعضلة على صفوة الأمة وقادتها الهادين المهديين، ودارسهم أمرها ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عرف رأيهم وعرفوا رأيه، وظهر الناس في أرجاء الأرض ما انعقد عليه إجماعهم، فلم يُعرف قط يومئذ لهم مخالف، ولا عُرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفى على آحاد الأمة فضلاً عن علمائها وأئمتها البارزين أن عثمان – رضي الله عنه- لم يبتدع في جمعه للمصحف، بل سبقه إلى ذلك أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – كما أنه لم يضع ذلك من قبل نفسه إنما فعله عن مشورة للصحابة- رضي الله عنهم- وأعجبهم هذا الفعل، وقالوا: نعم ما رأيت، وقالوا أيضًا: قد أحسن – أي في فعله في المصاحف-, وقد أدرك مصعب بن سعد صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين مشق عثمان المصاحف، فرآهم قد أُعجبوا بهذا الفعل منه, وكان علي -رضي الله عنه- ينهى من يعيب على عثمان – رضي الله عنه – بذلك ويقول: يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلاّ خيرًا، فو الله ما فعل الذي فعل- أي في المصاحف – إلاّ عن ملأ منا جميعًا؛ أي الصحابة..والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل, وجاء في رواية أخرى عن علي قوله: لمّا اختلف الناس في القرآن، وبلغ ذلك عثمان جمعنا أصحاب رسول الله، واستشارنا في جمع الناس على قراءة، فأجمع رأينا مع رأيه على ذلك، وقال بعد ذلك: لو وليت الذي ولى، لصنعت مثل الذي صنع.
خامسًا: موقف علي -رضي الله عنه- في فتنة عثمان رضي الله عنه:
كانت هناك أسباب متنوعة ومتداخلة ساهمت في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، كالرخاء وأثره في المجتمع، وطبيعة التحوّل الاجتماعي، ومجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، والعصبية الجاهلية، وتآمر الحاقدين، والتدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان، واستخدام الوسائل والأساليب المهيجة للناس، وأثر السبئية في أحداث الفتنة، وقد فصّلت وشرحت تلك الأسباب في كتابي «تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان..شخصيته وعصره».
لقد استخدم أعداء الإسلام في فتنة مقتل عثمان الأساليب والوسائل المهيّجة للناس، من إشاعة الأراجيف؛ إذ ترددت كلمة الإشاعة والإذاعة كثيرًا، والتحريض، والمناظرة والمجادلة للخليفة أمام الناس، والطعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب واختلاقها على لسان الصحابة-رضي الله عنهم- عائشة وعلي وطلحة والزبير، والإشاعة بأن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الأحق بالخلافة، وأنه الوصي بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتنظيم فرق في كل من البصرة والكوفة ومصر، أربع فرق من كل مصر، مما يدل على التدبير المسبق، وأوهموا أهل المدينة أنهم ما جاؤوا إلاّ بدعوة الصحابة، وصعّدوا الأحداث حتى وصلت إلى القتل, وإلى جوار هذه الوسائل، استخدموا مجموعة من الشعارات منها التكبير، ومنها أن هذا ضد المظالم، ومنها أنهم لا يقومون إلاّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها المطالبة باستبدال الولاة وعزلهم، ثم تطوّرت المطالبة إلى خلع عثمان، إلى أن تمادوا في جرأتهم، وطالبوا بل سارعوا إلى قتل الخليفة، وخاصة حينما وصلهم الخبر بأن أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة، فزادهم حماسهم المحموم لتضييق الخناق على الخليفة، والتشوّق إلى قتله بأي وسيلة.
كان التنظيم السبئي بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي خلف تلكم الأحداث والتي بعدها، وسيأتي الحديث عنه بإذن الله، وعن عثمان الذي هزّ مقتله العالم الإسلامي وأثّر في كثير من الأحداث إلى يومنا هذا.
1- موقف علي -رضي الله عنه- في بداية الفتنة: استمر علي – رضي الله عنه – في طريقته المعهودة مع الخلفاء، وهى السمع والطاعة والإدلاء بالمشورة والنصح، وقد عبر بنفسه عن مدى طاعته للخليفة عثمان والتزام أمره، ولو كان شاقًا بقوله: لو سيّرني عثمان إلى صرار لسمعت وأطعت, وعندما نزل المتمرّدون في ذي المروة قبل مقتل عثمان بما يقارب شهرًا ونصفًا، أرسل إليهم عثمان عليًا ورجلاً آخر لم تسمه الروايات، والتقى بهم علي -رضي الله عنه- فقال لهم: تعطون كتاب الله، وتعتبون من كل ما سخطتم، فوافقوا على ذلك, وفي رواية أنهم شادّوه مرتين أو ثلاثًا، ثم قالوا: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله فقبلوا, فاصطلحوا على خمس: على أن المنفي يقلب، والمحروم يُعطى، ويُوفّر الفيء، ويُعدل في القسم، ويُستعمل ذو الأمانة والقوة، وكتبوا ذلك في كتاب، أن يُردّ ابن عامر على البصرة، وأن يبقى أبو موسى على الكوفة, وهكذا اصطلح عثمان – رضي الله عنه – مع كل وفد على حدة، ثم انصرفت الوفود إلى ديارها, وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعًا راضين تبيّن لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططوا تخطيطًا آخر- يذكي الفتنة ويحييها- يقتضي تدمير ما جرى من صلح بين أهل الأمصار، وعثمان -رضي الله عنه- وبرز ذلك فيما يأتي:
في أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبًا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم فكأنه يقول: خذوني، فقبضوا عليه، وقالوا له: مالك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بكتاب على لسان عثمان-رضي الله عنه- ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها، ونفى عثمان-رضي الله عنه- أن يكون كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين، أو يمين بالله الذي لا إله إلاّ هو ما كتبت ولا أمللت، ولا علمت، وقد يُكتب الكتاب على لسان الرجل، ويُنقش الخاتم، فلم يصدقوه -وهو الصادق البار- لغاية في نفوسهم، وهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه من عثمان وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحد من إبل الصدقة إلى عامله بمصر ابن أبي سرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين، هو كتاب مزوّر مكذوب على لسان عثمان، وذلك لعدة أمور منها: كيف علم العراقيون بالأمر، وقد اتجهوا إلى بلادهم، وفصلتهم عن المصريين – الذين أمسكوا بالكتاب المزعوم- مسافة شاسعة، فالعراقيون في الشرق والمصريون في الغرب، ومع ذلك عادوا جميعًا في آن واحد، كأنما كانوا على ميعاد!! لا يُعقل هذا إلاّ إذا كان الذين زوّروا الكتاب واستأجروا راكبًا ليحمله، ويمثل الدور في البويب أمام المصريين، قد استأجروا راكبًا آخر انطلق إلى العراقيين ليخبرهم بأن المصريين قد اكتشفوا كتابًا بعث فيه عثمان لقتل المنحرفين المصريين، وهذا ما احتج به علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقد قال: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل، ثم طويتم نحونا, بل إن عليًا يجزم: هذا –والله- أمر أُبرم بالمدينة.
إن هذا الكتاب المشؤوم ليس أول كتاب يزوّره هؤلاء المجرمون، بل زوّروا كتبًا على لسان أمهات المؤمنين، وكذلك على لسان علي وطلحة والزبير؛ فهذه عائشة- رضي الله عنها- تُتّهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان، فتنفي وتقول: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا, ويعقب الأعمش فيقول: فكانوا يرون أنه كُتب على لسانها, ويتهم الوافدون عليًا بأنه كتب إليهم أن يقدموا عليه بالمدينة، فينكر ذلك عليهم ويقسم: والله ما كتبت إليكم كتاباً, كما يُنسب إلى الصحابة بكتابة الكتب إلى أهل الأمصار يأمرونهم بالقدوم إليهم، فدين محمد قد فسد وترك، والجهاد في المدينة خير من الرباط في الثغور البعيدة, ويعلق ابن كثير على هذا الخبر قائلاً: وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزوّرة عليهم، فقد كُتب من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج- قتلة عثمان- كتب مزوّرة عليهم أنكروها، وكذلك زُوّر هذا الكتاب على عثمان أيضاً، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم به, ويؤكد كلام ابن كثير ما رواه الطبري وخليفة من استنكار كبار الصحابة- علي وعائشة والزبير- أنفسهم لهذه الكتب في أصح الروايات. إن الأيدي المجرمة التي زوّرت الرسائل الكاذبة على لسان أولئك الصحابة هي نفسها التي أوقدت نار الفتن من أولها إلى آخرها، ورتبت ذلك الفساد العريض، وهى التي زوّرت وروّجت على عثمان تلك الأباطيل، وأنه فعل وفعل، ولقّنتها للناس، حتى قبلها الرعاع، ثم زوّرت على لسان عثمان ذلك الكتاب، ليذهب عثمان ضحية إلى ربه شهيدًا سعيدًا، ولم يكن عثمان الشهيد هو المجني عليه وحده في هذه المؤامرة السبئية اليهودية، بل الإسلام نفسه كان مجنيًا عليه قبل ذلك، ثم التاريخ المشوّه المحرف، والأجيال الإسلامية التي تلقّت تاريخها مشوهًا هي كذلك ممن جنى عليهم الخبيث اليهودي، وأعوانه من أصحاب المطامع والشهوات والحقد الدفين، أما آن للأجيال الإسلامية أن تعرف تاريخها الحق، وسير رجالاتها العظام؟ بل ألم يأنِ لمن يكتب في هذا العصر من المسلمين أن يخاف الله، ولا يتجرأ على تجريح الأبرياء قبل أن يحقق ويدقق حتى لا يسقط كما سقط غيره؟!
2- موقف علي -رضي الله عنه- أثناء الحصار: اشتد الحصار على عثمان -رضي الله عنه- حتى مُنع من أن يحضر للصلاة في المسجد، وكان صابرًا على هذه البلوى التي أصابته كما أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وكان مع إيمانه القوي بالقضاء والقدر، يحاول أن يجد حلاً لهذه المصيبة، فنراه تارة يخطب الناس عن حرمة دم المسلم، وأنه لا يحل سفكه إلاّ بحقه، وتارة يتحدث في الناس، ويظهر فضائله وخدماته الجليلة في الإسلام، ويستشهد على ذلك ببقية العشرة رضوان الله عليهم، وكأنه يقول: من هذا عمله وفضله هل من الممكن أن يطمع بالدنيا، ويقدمها على الآخرة؟ وهل يعقل أن يخون الأمانة، ويعبث بأموال الأمة ودمائها، وهو يعرف عاقبة ذلك عند الله، وهو الذي تربّى على عين النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي شهد له وزكّاه، وكذلك أفاضل الصحابة، أهكذا تكون معاملته؟!
واشتدت سيطرة الثوار على المدينة، حتى أنهم ليصلون بالناس في أغلب الأوقات, وحينما أدرك الصحابة أن الأمر ليس كما حسبوا، وخشوا من حدوث ما لا يُحمد عقباه، وقد بلغهم أن القوم يريدون قتله، فعرضوا عليه أن يدافعوا عنه، ويخرجوا الغوغاء عن المدينة، إلاّ أنه رفض أن يُراق دم بسببه, وأرسل كبار الصحابة أبناءهم دون استشارة عثمان، رضي الله عنه، ومن هؤلاء الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وعبد الله بن الزبير؛ إذ تذكر بعض الروايات أن الحسن حُمل جريحًا من الدار, كما جُرح غير الحسن، عبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، كما كان معهم الحسين بن علي وابن عمر رضي الله عنهما, وقد كان علي من أدفع الناس عن عثمان، رضي الله عنه، وشهد له بذلك مروان بن الحكم, أقرب الناس إلى عثمان رضي الله عنه، وألصقهم به في تلك المحنة القاسية الأليمة، وقد أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، أن عليًا أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي، فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئًا يُستحلّ به دمك، فقال: جزيت خيرًا، ما أحب أن يهراق دم في سببي, وقد وردت روايات عديدة تفيد وقوفه بجانب عثمان- رضي الله عنهما- أثناء الحصار، فمن ذلك: أن الثائرين منعوا عن عثمان الماء حتى كاد أهله أن يموتوا عطشًا، فأرسل علي -رضي الله عنه- إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبنى أمية حتى وصلت, ولقد تسارعت الأحداث فوثب الغوغاء على عثمان وقتلوه، رضي الله عنه، وأرضاه، ووصل الخبر إلى الصحابة وأكثرهم في المسجد، فذهبت عقولهم، وقال علي لأبنائه وأبناء إخوانه: كيف قُتل عثمان وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن، وكان قد جُرح، وضرب صدر الحسين، وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله ويقول: تبًا لكم سائر الدهر، اللهم إني أبرأ إليك من دمه أن أكون قتلت أو مالأت على قتله, وهكذا كان موقف علي -رضي الله عنه- نصحًا وشورى، سمعًا وطاعة، وقفة قوية بجانبه أثناء الفتنة، ومن أدفع الناس عنه، ولم يذكره بسوء قط، يحاول الإصلاح وسدّ الخرق بين الخليفة والخارجين عليه، لكن الأمر فوق طاقته، وخارج إرادته، إنها إرادة الله -عز وجل- أن يفوز أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بالشهادة.
3- المصاهرات بين آل علي وآل عثمان رضي الله عنه: لم يكن بين بني هاشم وبني أمية من المباغضة والعداوة والمنافرة التي اخترعها وابتكرها أعداء الإسلام والمسلمين، ونسجوا الأساطير والقصص حولها، ولقد اتضح لكل منصف أن بني أمية مع بني هاشم علاقتهم فيما بينهم علاقة أبناء العمومة والإخوان والخلان، فهم من أقرب الناس فيما بينهم، يتبادلون الحب والتقدير والاحترام، ويتقاسمون الهموم والآلام والأحزان، فبنوا أمية وبنو هاشم كلهم أبناء أب واحد، وأحفاد جد واحد، وأغصان شجرة واحدة قبل الإسلام وبعد الإسلام، وكلهم استقوا من عين واحدة ومنبع صاف واحد، وأخذوا الثمار من دين الله الحنيف الذي جاء به رسول الله الصادق الأمين، المعلم، المربي، خاتم الأنبياء والمرسلين، ولقد كان بين أبي سفيان وبين العباس صداقة يُضرب بها الأمثال, كما كانت بينهم المصاهرات قبل الإسلام وبعده، فلقد زوّج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بناته الثلاث من الأربعة من بني أمية؛ من أبي العاص بن الربيع وهو من بني أمية، ومن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، وهو مع ذلك ابن بنت عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي ولدت مع والد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- عبد الله بن عبد المطلب توءمين: أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس وهى أم عثمان، وأمها أم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا ولقد تزوّج بعد عثمان بن عفان-رضي الله عنه- من بني هاشم ابنه أبان بن عثمان، وكانت عنده أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر (الطيار) بن أبي طالب شقيق علي رضي الله عنهما, وحفيدة علي، وبنت الحسين سكينة كانت متزوجة من حفيد عثمان زيد بن عمرو بن عثمان، رضي الله عنهم أجمعين، وحفيدة علي الثانية وابنة الحسين فاطمة كانت متزوجة من حفيد عثمان الآخر، محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت أم حبيبة بنت أبي سفيان سيد بني أمية متزوجة من سيد بني هاشم وسيد ولد آدم رسول الله الصادق الأمين كما هو معروف، كما أن هند بنت أبي سفيان كانت متزوجة من الحارث بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، فولدت له ابنه محمدًا(74).
وتزوجت لبابة بنت عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، العباس بن علي بن أبي طالب، ثم خلف عليها الوليد بن عتبة (ابن أخي معاوية) ابن أبي سفيان, وتزوجت رملة بنت محمد بن جعفر- الطيار – بن أبي طالب سليمان بن هشام بن عبد الملك (الأموي) ثم أبا القاسم بن وليد بن عتبة بن أبي سفيان, كذلك تزوجت ابنة علي بن أبي طالب رملة من ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، فقد كانت رملة بنت علي عند أبي الهياج.. ثم خلف عليها معاوية بن مروان بن الحكم بن أبي العاص, وتزوجت حفيدة علي بن أبي طالب من حفيد مروان بن الحكم، فنفيسة بنت زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب تزوّجها الوليد بن عبد الملك بن مروان فتوفّيت عنده، وأمّها لبابة بنت عبد الله بن عباس, وقد اكتفيت ببيان بعض منها، وفيها كفاية لمن أراد الحق والتبصر.
سادسًا: من أقوال علي في الخلفاء الراشدين:
إن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- قد أجمع على صحتها وانعقادها الصحابة الكرام، ومن طعن في أحد منهم فقد خالف قول الله تعالى:
(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). [النساء:115]،وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ». فهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي- رضي الله عنهم- ومن اتبعهم بإحسان, وما أحسن ما قاله أيوب السختياني في هذا المقام حيث قال: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله عز وجل، ومن أحب عليًا فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن أحسن القول في أصحاب محمد فقد برئ من النفاق.
قال الشاعر:
إني رضيتُ عليًا قدوةً علمًا
كما رضيتُ عتيقًا صاحبَ الغارِ
وقد رضيتُ أبا حفصٍ وشيعتَهُ
وما رضيتُ بقتلِ الشيخِ في الدارِ
كلُّ الصحابةِ عندي قدوةٌ علمٌ
فهل عليّ بهذا القولِ من عارِ
إنْ كنتَ تعلمُ أني لا أحبُّهمُ
إلاّ لوجهك أعتقني من النارِ
هذا وقد جاءت الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة في العلاقة المتميزة بين علي والخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم- وقد تم توضيح ذلك في الصفحات الماضية، وهذه بعض الأدلة نضيفها إلى ما سبق من براهين ساطعة على مكانة الخلفاء الراشدين عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
1- سيدا كهول أهل الجنة وشبابها: عن علي -رضي الله عنه- قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر وعمر، فقال: يا علي، هذان سيدا كهول أهل الجنة، وشبابها، بعد النبيين والمرسلين.
ما أضمر لهما إلاّ الذي أتمنى المضيّ عليه: عن سويد بن غفلة، قال: مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بكر وعمر، فدخلت على عليٍّ فقلت: يا أمير المؤمنين، مررت بنفر من أصحابك آنفًا يتناولون أبا بكر وعمر بغير الذي هما له من الأمة أهل، فلولا أنك تُضْمُر على مثل ما أعلنوا عليه ما تجرؤوا على ذلك فقال عليّ: ما أضمر لهما إلاّ الذي أتمنى المضيّ عليه، لعن الله من أضمر لهما إلاّ الحسن الجميل، ثم نهض دامع العين يبكي، قابضًا على يدي حتى دخل المسجد، فصعد المنبر وجلس عليه متمكنًا قابضًا على لحيته ينظر فيها وهى بيضاء، حتى اجتمع له الناس، ثم قام فخطب خطبة موجزة بليغة، ثم قال: ما بال قوم يذكرون سيدي قريش وأبوي المسلمين؟ أنا مما قالوا بريٌّ، وعلى ما قالوا مُعاقب، ألا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا يحبهما إلاّ مؤمن تقي، ولا يبغضهما إلاّ فاجر رديّ، صحبا رسول الله على الصدق والوفاء، يأمران وينهيان، وما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله، ولا كان رسول الله يرى بمثل رأيهما، ولا يحب كحبهما أحدًا، قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهما راض، ومضيا والمؤمنون عنهما راضون، أمر رسول الله أبا بكر لصلاة المؤمنين، فصلى بهم تسعة أيام في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما قبض الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- واختار له ما عنده، ولاّه المؤمنون أمرهم، وقضوا إليه الزكاة، لأنهما مقرونان، ثم أعطوه البيعة طائعين غير كارهين، أنا أول من سن ذلك من بني عبد المطلب، وهو لذلك كاره يودّ أن أحدنا كفاه ذلك، وكان –والله- خير من بقي، أرحمه رحمة، وأرأفه رأفة، وأثبته ورعًا، وأقدمه سنًا وإسلامًا..فسار فينا سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى مضى على ذلك، ثم ولى عمر الأمر من بعده، فمنهم من رضي، ومنهم من كره، فلم يفارق الدنيا حتى رضي به من كان كرهه، فأقام الأمر على منهاج النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، يتبع آثارهما كتباع الفصيل أمه، وكان والله رفيقًا رحيمًا، وللمظلومين عونًا راحمًا وناصرًا، لا يخاف في الله لومة لائم، ضرب الله بالحق على لسانه، وجعل الصدق من شأنه، حتى كنا نظن أن ملكًا ينطق على لسانه، أعز الله بإسلامه الإسلام، وجعل هجرته للدين قوامًا، ألقى الله تعالى له في قلوب المنافقين الرهبة، وفي قلوب المؤمنين المحبة..إلى أن قال: فمن لكم بمثلهما – رحمة الله عليهما- ورزقنا المضيّ على سبيلهما، فإنه لا يبلغ مبلغهما إلاّ باتباع آثارهما والحبًّ لهما، ألا فمن أحبني فلُيحبّهما، ومن لم يحبهما فقد أبغضني، وأنا منه بريء، ولو كنت تقدمت إليكم في أمرهما لعاقبت على هذا أشد العقوبة، ولكن لا ينبغي أن أعاقب قبل التقدم، ألا فمن أتيت به يقول هذا بعد اليوم، فإن عليه ما على المفتري، ألا وخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر، ولو شئت سميت الثالث، وأستغفر الله لي ولكم.
2- هذا عثمان بن علي سميته بعثمان بن عفان: عن أبي سعيد الخدري: نظرت إلى غلام أيفع, له ذؤابة وجمة, والله يعلم أني منه حينئذ لفي شك، ما أدري غلام هو أم جارية، فمررنا بأحسن منه، وهو جالس إلى جنب علي فقلت: عافاك الله، من هذا الفتى إلى جانبك؟ قال: هذا عثمان بن علي سميته بعثمان بن عفان، وقد سميت بعمر بن الخطاب، وسميت بعباس عم رسول الله، وقد سميت بخير البرية محمد، فأما حسن وحسين ومحسن فإنما سماهم رسول الله، وعقَّ عنهم، وحلق رؤوسهم, وتصدق وزنها وأمر بهم فسموا وختنوا, فقد ولدوا في عهده عليه الصلاة والسلام، ورسول الله هو الذي سمّاهم وعقّ عنهم.
3- أبو بكر وعمر وعثمان-رضي الله عنهم- كان لهم بالنبي اختصاص عظيم: قد عُرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- كان لهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- اختصاص عظيم، وكانوا من أعظم الناس اختصاصًا به، وصحبة له وقربة إليه، وقد صاهرهم كلهم، وكان يحبهم، ويثني عليهم، وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرًا وباطنًا في حياته وبعد موته، وإما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته، أو بعد موته، فإن كانوا على غير الاستقامة مع هذا القرب فأحد الأمرين لازم، إما عدم علمه بأحوالهم، أو مداهنته لهم، وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما قيل:
فإنْ كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ
وإنْ كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواصّ أمته، وأكابر أصحابه، ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما قال الإمام مالك وغيره: إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليقول القائل: رجل كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلاً صالحًا لكان أصحابه صالحين، ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة.
4- ما يترتب عليه من مذهب الرافضة من تكفير الصحابة: إن مذهب الرافضة في تكفير الصحابة يترتب عليه تكفير أمير المؤمنين لتخليه عن القيام بأمر الله، ويلزم عليه إسقاط تواتر الشريعة، بل بطلانها ما دام نَقَلَتُها مرتدين، ويؤدي إلى القدح في القرآن العظيم؛ لأنه وصلنا عن طريق أبي بكر وعمر وعثمان وإخوانهم، وهذا هو هدف واضع هذه المقالة، ولذلك قال أبو زرعة: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حق والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة, ولذلك اعترفت كتب الشيعة أن الذي وضع هذه المقالة هو ابن سبأ فقالت: إنه أول من أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرّأ منهم، وادّعى أن عليًا عليه السلام أمره بذلك.
5- قرائن عملية وأدلة واقعية على حقيقة العلاقة بين علي والخلفاء الراشدين: قامت القرائن العملية والأدلة الواقعية من سيرة أمير المؤمنين علي في علاقته مع إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان مما اشتهر وذاع نقله، وقد نقلنا منه الكثير فيما مضى ما يثبت المحبة الصادقة والإخاء الحميم بين هذه الطليعة المختارة، والصفوة من جيل الصحابة- رضوان الله عليهم- وتأتي في مقدمة هذه الأدلة والقرائن تزويج أمير المؤمنين علي ابنته أم كلثوم لأمير المؤمنين عمر, فإذا كان عمر فاروق هذه الأمة قد صار عند الشيعة الروافض أشد كفرًا من إبليس، أفلا يرجعون إلى عقولهم ويتدبرون فساد ما ينتهي إليه مذهبهم؟ إذ لو كان أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- كافرين -كما يفترون- لكان علي بتزويجه ابنته أم كلثوم الكبرى من عمر، رضي الله عنه، كافرًا أو فاسقًا معرضًا بنته للزنا، لأن وطء الكافر للمسلمة زنا محض, والعاقل المنصف البريء من الغرض، الصادق في محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته واتباعه لهم لا يملك إلاّ الإذعان لهذه الحقيقة، حقيقة الولاء والحب بين الخلفاء الأربعة- رضوان الله عليهم- ولذلك لما قيل لمعز الدولة أحمد بن بويه- وكان رافضيًا يشتم صحابة رسول الله – إن عليًا- رضي الله عنه – زوّج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، استعظم ذلك وقال: ما علمت بهذا، وتاب وتصدّق بأكثر ماله، وأعتق مماليكه، ورد كثيرًا من المظالم، وبكى حتى غشي عليه, لشعوره بعظم جرمه فيما سلف من عمره، الذي أمضاه ينهش في أعراض هؤلاء الأطهار مغترًا بشبهات الروافض, وقد حاول شيوخ الشيعة الروافض إبطال مفعول هذا الدليل، فوضعوا روايات مكذوبة على لسان الأئمة تقول: ذلك فرج غصبناه, فزادوا الطين بلة، حتى صوّروا أمير المؤمنين في صورة «الديوث» الذي لا ينافح عن عرضه، ويقر الفاحشة في أهله، وهل يُتصوّر مثل هذا في حق أمير المؤمنين علي بطل الإسلام؟ إن أدنى العرب ليبذل نفسه دون عرضه، ويُقتل دون حرمه، فضلاً عن بني هاشم الذين هم سادات العرب، وأعلاها نسبًا، وأعظمها مروءة وحمية، فكيف يثبتون لأمير المؤمنين وابنته حفيدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل هذه المنقصة الشنيعة، وهو الشجاع الصنديد، ليث بني غالب، أسد الله في المشارق والمغارب.
ويبدو أن بعضهم لم يعجبه هذا التوجيه، فرام التخلّص من هذا الدليل بمنطق أغرب وأعجب؛ إذ زعم أن أم كلثوم لم تكن بنت علي، ولكنها جنية تصورت بصورتها, فأتوا بما يستخف به أصحاب العقول، ويستطيع كل من أراد أن يدّعي على من يكرهه بأنه جني أو جنية، وهكذا يعيش الناس في الخرافات، وتضيع الحقيقة.
ومن القرائن أيضاً علاقات القربى القائمة بينهم، ووشائج الصلة، وكذلك مظاهر المحبة، حتى إن عليًا والحسن والحسين- كما مر معنا- يسمون بعض أولادهم باسم أبي بكر وعمر، وهل يطيق أحد أن يسمى أولاده بأسماء أشد أعدائه كفرًا وكرهًا له؟ وهل يطيق أن يسمع أسماء أعدائه تتردّد في أرجاء بيته يرددها مع أهله في يومه مرات وكرات.
إن أمير المؤمنين عليًا – رضي الله عنه – لا يحفظ عنه الصحابة، ومن تبعهم من التابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلاّ محبة أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – في حياتهم، وفي خلافتهم وبعد وفاتهم، فأما في خلافتهم فسامع لهم مطيع، يحبّهم ويحبّونه، ويعظّم قدرهم ويعظّمون قدره، صادق في محبتهم، مخلص في الطاعة لهم، يجاهد من يجاهدون، ويحبّ ما يحبّون، ويكره ما يكرهون. يستشيرونه في النوازل فيشير مشورة ناصح مشفق محب، فكثير من سيرتهم بمشورة جرت, وهم يبادلونه نفس الشعور ويُقال: إنه لا يجتمع حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلاّ في قلوب أتقياء هذه الأمة, وقال سفيان الثوري: لا يجتمع حب عثمان وعلي -رضي الله عنهما- إلاّ في قلوب نبلاء الرجال, وقال أنس بن مالك: قالوا: إن حب عثمان وعلي -رضي الله عنهما- لا يجتمعان في قلب مؤمن، كذبوا، فقد جمع الله -عز وجل- حبهما -بحمد الله- في قلوبنا.
سابعًا: وصف لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم:
قال تعالى: ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ). [الفتح:29].
ومن المناسب أن أختم هذا الفصل بهذه الآية الكريمة لتكون دليلاً على ما ذكرته من المحبة والرحمة والتعاون بين الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام؛ فهذه الآية تضمنت ذكر منزلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالثناء، ثم ثنّى الله تعالى فيها بالثناء على سائر الصحابة-رضوان الله عليهم أجمعين-فذكر تعالى أن صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء، وفي مقدمة تلك الأعمال الصالحة إكثارهم من الصلاة ابتغاء الحصول على فضل من الله ورضوان، كما بيّن – سبحانه – أن آثار ذلك تظهر على وجوههم ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) والسيما أي العلامة، وقد قيل بها بياض يكون في الوجوه يوم القيامة، قاله الحسن وسعيد بن جبير، وهى رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ورواية أخرى عنه وعن مجاهد: السيماء في الدنيا هو السمت الحسن «وعن مجاهد أيضًا: هو الخشوع والتواضع».
وهذه الأقوال لا منافاة بينها؛ إذ يمكن أن يكون في الدنيا هو السمت الذي ينشأ عن التواضع والخشوع، وفي الآخرة يكون في جباههم نور، قال ابن كثير: فالصحابة – رضي الله عنهم – خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك- رضي الله عنه-: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة، رضي الله عنهم -الذين فتحوا الشام- يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نوّه الله – تبارك وتعالى – بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال – سبحانه – ههنا: ( مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ) ثم قال: ( وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي: فراخه ( فَآزَرَهُ) أي: شدّه وقوّاه ( فَاسْتَغْلَظَ ) أي: شب وطال ( فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي فكذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آزروه وأيّدوه ونصروه, فهم معه كالشطء مع الزرع ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ )، ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك -رحمة الله عليه- في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم, قال: لأنهم يغيظونه, ومن غاظه الصحابة -رضي الله عنهم- فهو كافر لهذه الآية, ووافقه طائفة من العلماء على ذلك.. ثم قال تبارك وتعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم) أي: ثوابًا جزيلاً ورزقًا كريمًا، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة -رضي الله عنهم- فهو في حكمهم ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل، وفي قوله- سبحانه – في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أخطر حكم، وأغلظ تهديد، وأشد وعيد في حق من غيظ بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو كان في قلبه غلّ لهم، وأما قوله تعالى في ختام الآية: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) ففيها وعد من الله تعالى لجميع الصحابة بالجنة، وكذلك كل من آمن وعمل الصالحات من أمة الإجابة؛ إذ هذا الوعد لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة, وكلمة «منهم» في الآية السابقة: «من» لبيان الجنس وليست للتبعيض، قال ابن تيمية: لا ريب إن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات، وهو الشدة على الكفار، والرحمة بينهم، والركوع والسجود يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، والسيماء في وجوههم من أثر السجود، وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع، والوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات، بل على الإيمان والعمل الصالح، فذكر ما به يستحقون الوعد، وإن كانوا كلهم بهذه الصفة، ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح، فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم.
إن ما ذكرته في هذا الفصل ينسجم كليًا مع حديث القرآن الكريم عن الرحمة بين الصحابة والشدة على الكفار، وخصوصًا بين الخلفاء الراشدين، فهم السادة الكرام، وعلية القوم، وقادة الأمة بعد وفاة نبيها، فالحذر من الروايات الضعيفة والقصص الموضوعة التي اختلقها أعداء الأمة ليشوّهوا به تاريخ صدر الإسلام، أنصدق الروايات الكاذبة والقصص الواهية التي تصور العداء بين الخلفاء الراشدين، أم نصدق كتاب ربنا، وما جاء في حقهم على لسان نبينا، وما يوافقه مما دونه العلماء الثقات من أهل السنة والجماعة؟
قال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:63]، فهذا وصف القرآن الكريم لحقيقة الألفة بين قلوب الصحابة، فهي منحة ربانية ونعمة أعطاها الله لذلك الجيل الطاهر لا دخل لبشر فيها، وبيَّن القرآن الكريم أن الألفة بين الصحابة نعمة من الله تعالى امتن بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التصوير القرآني لحقيقة الصحابة ينسجم مع الروايات الصحيحة التي تبين محبّة الصحابة والمودّة بينهم، وبذلك يفتضح أمر الذين وضعوا الروايات المكذوبة والموضوعة، والآية تشمل كلّ من سار على هدى القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، قال ابن عباس: قرابة الرحم تقطع، ومنة المنعم تكفر، ولم نر مثل تقارب القلوب.
قال الشاعر:
ولقد صحبتُ الناسَ ثم خبرتُهم
وبلوْتُ ما وصلوا من الأسبابِ
فإذا القرابةُ لا تقر